مقال في التداولية العربية وأعلامها
مقدمة: ما هي التداولية؟
التداولية (Pragmatics) هي أحد فروع علم اللغة الحديث الذي يدرس استعمال اللغة في سياقاتها التواصلية الحقيقية. لا تهتم التداولية بالمعنى الحرفي للجملة (ما الذي قاله المتكلم) بقدر اهتمامها بما قصده المتكلم وما أثاره كلامه من تأثير في المتلقي. تبحث في كيف نفهم المقاصد الخفية، والسخرية، والمجاز، وكيف نستخدم اللغة لإنجاز أفعال (كالوعد والطلب والتهديد)، وكيف تؤثر عناصر الموقف التخاطبي (المتكلم، المستمع، الزمان، المكان، المعرفة السابقة) على فهمنا للكلام.
نشأة التداولية العربية
على الرغم من أن التداولية كمنهج نظري غربي النشأة (ارتبطت بأسماء مثل موريس وأوستن وسيرل)، إلا أن الدرس اللغوي العربي القديم كان غنيًا بالإشارات والتأسيسات التداولية. كان اللغويون العرب القدامى يدركون أن فهم اللغة لا يكمن في بنيتها الداخلية فقط، بل في سياق استعمالها. وقد حاول الدارسون المعاصرون استنطاق التراث العربي لإبراز هذه الجوانب التداولية وإعادة صياغتها بمصطلحات العصر.
أعلام التداولية العربية
يمكن تقسيم الأعلام إلى قسمين: أعلام التراث الذين تناولوا أفكارًا تداولية ضمنيا، والدعاة المعاصرين الذين أسسوا لها كمنهج.
1. أعلام من التراث العربي:
عبد القاهر الجرجاني (ت. 471هـ): يعد من أبرز من وضعوا اللبنات الأولى للفكر التداولية. في كتابه العظيم "دلائل الإعجاز"، ركز على نظرية النظم، والتي مفادها أن جمال القرآن ومعناه لا يكمن في الكلمات المفردة بل في كيفية نظمها وترتيبها وفقًا لمقتضى الحال والسياق. هذه الفكرة (مقتضى الحال) هي قلب التداولية، حيث يختلف الكلام باختلاف السياق والغرض.
أبو بكر الباقلاني (ت. 403هـ): في كتابه "إعجاز القرآن"، تناول فكرة الأفعال الكلامية قبل أوستن بقرون، مثل قوله إن الكلام قد يكون "طلبًا" أو "أمرًا" أو "نهيًا" أو "استفهامًا"، وهي أفعال ننجزها بالكلام.
علماء البلاغة (البيان والمعاني والبديع): خاصة علم المعاني الذي يدرس كيفية مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وهو علم تداولي بامتياز. فمثلاً، دراسة أسلوب القصر والحذف والتقديم والتأخير كلها قرارات يتخذها المتكلم لتحقيق تأثير معين في السامع وفقًا للسياق.
2. أعلام معاصرون:
الدكتور محمد محمد يونس علي: من رواد دراسة التداولية في التراث العربي، وألف كتابًا هامًا بعنوان "التداولية وعلم المعاني".
الدكتور سعد مصلوح: له إسهامات كبيرة في ربط البلاغة العربية القديمة (علم المعاني) بالنظريات التداولية الحديثة.
الدكتور حمزة بن قبلان المزيني: باحث سعودي معاصر له جهود واضحة في ترجمة وشرح وتأصيل المفاهيم التداولية في البيئة العربية.
أسئلة وأجوبة (الفهم والتحليل)
س: ما الفرق بين علم الدلالة (Semantics) وعلم التداولية (Pragmatics)؟
ج: علم الدلالة يدرس المعنى الثابت والمنزوع من سياقه (معنى الجملة الحرفي). أما التداولية فتدرس المعنى المتحرك والسياقي (قصد المتكلم). مثال: لو قال أب لابنه في ليلة امتحان: "الجو بارد tonight". المعنى الدلالي: وصف لحالة الطقس. المعنى التداولي: تلميح أو أمر غير مباشر بإغلاق النافذة.
س: كيف عالج عبد القاهر الجرجاني الفكرة التداولية في نظريته؟
ج: عالجها من خلال مفهومي النظم ومقتضى الحال. فالنظم هو اختيار تراكيب لغوية محددة لتحقيق غرض معين يناسب السياق (الحال). فتقديم كلمة على أخرى أو حذف أخرى ليس عبثًا، بل استجابة لمتطلبات الموقف التخاطبي والتأثير في المتلقي.
س: ما العلاقة بين علم المعاني في التراث العربي والتداولية الحديثة؟
ج: العلاقة وثيقة جدًا. علم المعاني يبحث في "مطابقة الكلام لمقتضى الحال"، وهذا هو التعريف نفسه للتداولية تقريبًا.، يمكن اعتبار علم المعاني التداولية العربية القديمة.
أسئلة النقد والتقويم والرأي
س: هل يمكن اعتبار التداولية علمًا عربيًا أصيلاً أم أنه علم غربي مستورد؟
رأي: من الناحية الاصطلاحية والتأسيس النظري المنهجي، هي علم غربي النشأة. ولكن من ناحية المضمون والأفكار، كانت موجودة بشكل عضوي في تراثنا البلاغي واللغوي.، الدور العربي المعاصر هو توظيف المنهج الغربي لـ استنطاق وإعادة اكتشاف كنوز تراثنا، وليس مجرد استيراده.
س: ما نقاط القوة والضعف في محاولات تأصيل التداولية العربية اليوم؟
نقاط القوة: إحياء التراث وإثبات سبق العرب في مجالات فكرية، وجعل دراسة التراث أكثر حيوية وربطًا بالنظريات الحديثة.
نقاط الضعف: أحيانًا تكون هناك مقاربة إسقاطية، أي إسقاط مصطلحات ومفاهيم غربية على التراث وإجبار النصوص على التوافق معها، مما قد يسبب تشوّهًا في فهم النص الأصلي.
أسئلة تحليل الرأي والحجج
س: يحاجج بعض الباحثين بأن التراث اللغوي العربي كان تداوليًا بشكل كامل. حلل هذه الحجة وناقشها.
التحليل: هذه الحجة تحتوي على مبالغة. صحيح أن التراث العربي اهتم بالسياق والاستعمال (خاصة في علم المعاني والنحو العامل)، لكنه لم يقم أبدًا ببناء نظرية منفصلة ومستقلة اسمها "التداولية" ذات مفاهيم ومصطلحات وإطار تحليلي شامل كما في الغرب. كان الاهتمام التداولي تطبيقيًا ومشتتًا ضمن علوم أخرى كالبلاغة وأصول الفقه والنحو.، القول بأنه كان "كاملًا" فيه تجاوز للواقع.
أسئلة التركيب والتقويم
س: تلميذ كيف يمكن للتداولية أن تساعدنا في فهم سبب تقديم المفعول به على الفاعل أحيانًا في الجملة العربية؟ قيم هذه الإضافة.
الإجابة (التركيب): النحو التقليدي يخبرنا أن الأصل هو "التقديم" و"التأخير". لكن التداولية تقدم تفسيرًا أعمق: التقديم والتأخير له وظيفة تواصلية. تقديم المفعول به (مثال: "الكتابَ قرأ محمدٌ") يكون لإبرازه وتوكيده وجعله محورًا للكلام، أو لأنه معروف سابقًا في السياق. هذا يخدم غرض المتكلم في لفت انتباه السامع إلى شيء محدد. التقويم: هذه الإضافة قيمة جدًا لأنها تربط القاعدة النحوية المجردة بالوظيفة التواصلية الحية، مما يجعل دراسة النحو أكثر منطقية وفائدة.
نصائح لطالب السنة الأولى
افهم الأساس: تأكد من فهمك للفرق بين الدلالة والتداولية، فهو حجر الزاوية.
اقرأ في التراث: حاول الاطلاع على مباحث علم المعاني (في البلاغة) وكتب إعجاز القرآن، وسترى الأفكار التداولية تتجلى أمامك.
انقد المصطلحات: لا تستهلك المصطلحات الغربية كما هي، حاول دائمًا البحث عن المقابل العربي أو التراثي لها.
طبق بنفسك: خُلُق جملة عادية وحلل مقاصدها التداولية. اسأل: من المتكلم؟ من المستمع؟ أين هم؟ ما العلاقة بينهم؟ ماذا قصد المتكلم حقًا؟
خلاصة
التداولية العربية هي حقل معرفي يجمع بين أصالة التراث (متمثلاً في علم المعاني ونظرية النظم عند الجرجاني) وحداثة المنهج الغربي. تثبت أن العرب القدامى أدركوا أهمية السياق في تشكيل المعنى، وإن لم يصوغوه في إطار نظري مستقل. دراسة هذا الحقل تساعدنا على فهم أعمق للغة العربية ليس كمجرد قواعد جامدة، بل كأداة حية ديناميكية للتأثير والتواصل.
امتحان نموذجي مع الحل
الاسم:.......................... التاريخ:...........
السؤال الأول: اختر الإجابة الصحيحة: (4 درجات)
العلم الذي يهتم بدراسة المعنى حسب سياق الكلام هو:
أ) علم الدلالة
ب) علم الصرف
ج) علم التداولية
د) علم النحومن أبرز من تناول الأفكار التداولية في التراث العربي:
أ) سيبويه
ب) عبد القاهر الجرجاني
ج) الخليل بن أحمد
د) ابن خلدونالمفهوم التراثي الذي يعني "ملاءمة الكلام للسياق والغرض" هو:
أ) النحو العامل
ب) مقتضى الحال
ج) الإعراب
د) القياسدراسة الأفعال التي تنجز بالكلام (كالأمر والوعد) تسمى:
أ) نظرية النظم
ب) قواعد الخطاب
ج) نظرية الأفعال الكلامية
د) علم المعاني
السؤال الثاني: ميز بين المفهومين التاليين: (3 درجات)
علم الدلالة: يدرس المعنى الحرفي الثابت للكلمات والجمل بمعزل عن السياق.
علم التداولية: يدرس المعنى القصدي والسياقي للكلام، وكيف يستخدمه الناس في المواقف التواصلية الحقيقية لتحقيق أغراضهم.
السؤال الثالث: أجب عن أحد السؤالين التاليين: (3 درجات)
أ- حلل الموقف التداولي التالي: تدخل على والدك وهو منشغل في العمل، فتسأله: "هل الجو حار اليوم؟". ما المعنى الدلالي؟ وما المعنى التداولي المحتمل؟
* الإجابة النموذجية:
* المعنى الدلالي: استفسار عن درجة حرارة الطقس.
* المعنى التداولي: قد يكون طلبًا غير مباشر لتشغيل المكيف أو فتح النافذة، أو بداية لحديث جانبي. السياق (انشغال الأب) والشخصية (الابن) يحددان المقصود.
أو
ب- ناقش بالرأي: لماذا تهتم التداولية بدراسة الجملة غير التامة التي يحذف منها أحد عناصرها؟
* الإجابة النموذجية: لأن الحذف نفسه قرار تداولي. المتكلم يحذف ما يعرفه هو والمستمع already (المشاركة المعرفية)، فيكفيه التلميح لفهم المعنى. هذا يجعل التواصل أسرع وأكثر كفاءة. مثال: لو سألك صديقك "رايح فين؟" وقلت: "الجامعة". الحذف (أنا رايح) دليل على أن السياق المشترك يسمح بهذا الإيجاز.
تمنياتي لك بالنجاح والتوفيق في دراستك!

Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire