آخر الأخبار

جاري التحميل ...

البلاغة العربية في الإمتاع والإقناع

 


بالتأكيد. كتاب "الإمتاع والمؤانسة" لأبي حيان التوحيدي هو أحد أعمدة البلاغة العربية والفكر الأدبي، لكن من المهم أولاً توضيح أن العنوان الصحيح للكتاب هو "الإمتاع والمؤانسة" وليس "الإمتاع والإقناع". ربما هناك خلط مع كتاب "الإعجاز والإيجاز" للجرجاني أو مع مفهوم الإقناع البلاغي العام.

دعنا نناقش البلاغة في كتاب "الإمتاع والمؤانسة"، ثم نلمح سريعًا إلى الفرق بينه وبين مفهوم "الإقناع".

أولاً: البلاغة في كتاب "الإمتاع والمؤانسة"

يُعد هذا الكتاب منارة في الأدب العربي، يجسّد بلاغة الحوار وفن المحادثة أكثر من كونه كتابًا في البلاغة النظرية. ألّفه أبو حيان التوحيدي تسجيلاً لأمسيات ثقافية (37 ليلة) دارت بينه وبين الوزير الأديب أبي عبد الله العارض.

مظاهر البلاغة في الكتاب:

  1. بلاغة الحوار والحديث: البلاغة هنا ليست صناعة لفظية جافة، بل هي "فن الكلام" في أرقى صوره. الحوار يتدفق طبيعيًا، مليئًا بالحكمة، الطرافة، السؤال الفلسفي، والنادرة الأدبية. إنها بلاغة الإمتاع الذهني والمؤانسة الروحية.

  2. تنوع الأساليب البلاغية:

    • الاستشهاد بالشعر: يُزين التوحيدي حديثه بآلاف الأبيات الشعرية المناسبة للموضوع، مما يثري النص ويؤكد الفكرة بأبلغ ما قاله العرب.

    • الحكايات والأمثال: يسوق القصص والعبر والأمثال التي تجسد المعنى المجرد في صورة حسية مقنعة وممتعة.

    • الاستشهاد بالقرآن والحديث: يستخدم النصوص المقدسة وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم ليس فقط للاستدلال ولكن لجعل الكلام أكثر جزالة ووقعًا في النفس.

    • المحسنات البديعية: يستخدم السجع والطباق والجناس بشكل طبيعي غير متكلف، مما يُحدث موسيقى داخلية تطرب الأذن.

  3. اللغة السهلة الممتنعة: على الرغم من عمق الأفكار، فإن لغة التوحيدي سلسة واضحة، بعيدة عن التعقيد والغموض. هذه هي قمة البلاغة: "أن تقول الشيء العميق بأبسط صورة دون أن تفقده رونقه وجماله".

  4. البلاغة كوسيلة لا كغاية: الغاية من البلاغة عند التوحيدي هي الإمتاع (إدخال السرور على النفس ورفع الملل) والمؤانسة (التواصل الفكري والإنساني). البلاغة هنا خادمة للمعنى والفكرة، وليست غاية في ذاتها.

مثال من الكتاب:

في إحدى الليالي، يناقش التوحيدي والعارض معنى "الصديق"، فيسرد التوحيدي الحكايات والأشعار التي تصف الصداقة الحقيقية والغدر، مستخدمًا أسلوبًا سرديًا شيقًا يجمع بين الإقناع العقلي والإمتاع العاطفي.


ثانيًا: الفرق بين "الإمتاع" و "الإقناع" في البلاغة

إذا كنا نتحدث عن المفهومين العامين في البلاغة العربية، فهما ركنان أساسيان من أهداف الكلام البليغ:

  1. الإقناع (Persuasion):

    • الهدف: تغيير اعتقاد المتلقي أو دفعه لفعل شيء باستخدام الحجج العقلية والمنطقية والأدلة.

    • الأداة الأساسية: المنطق والحجة (وهو مجال علم المعاني بشكل كبير).

    • المجال الأمثل: الخطابة، والجدل، والمناظرات، والنقد.

    • مثال: خطبة قس بن ساعدة الإيادي: "أيها الناس، اسمعوا وعوا... من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت".

  2. الإمتاع (Delight / Entertainment):

    • الهدف: شد انتباه المتلقي، وإثارة مشاعره، وإدخال المتعة على نفسه من خلال جمال الصورة وروعة اللفظ.

    • الأداة الأساسية: التخييل والموسيقى والصورة (وهو مجال علم البيان وعلم البديع).

    • المجال الأمثل: الشعر، والنثر الفني، والقصة، والوصف.

    • مثال: قول ابن الرومي: "أغُرَّةُ وَجْهٍ كالقَمرِ المُنِيرِ وخَدٍّ كَوَرْدِ الخَدِّ لمْ يُعَصَّرِ".

الخطيب البليغ أو الأديب الماهر هو من يجمع بين الإقناع والإمتاع؛ فيقدم الحجة المقنعة في قالب جميل ممتع، فينفذ إلى العقل والقلب معًا. وهذا بالضبط ما نجح فيه أبو حيان التوحيدي في "الإمتاع والمؤانسة"، حيث قدّم الفلسفة والأدب في صورة حوارية مشوقة تقنع العقل وتمتع الوجدان.

الخلاصة:

  • "الإمتاع والمؤانسة" كتاب يطبق البلاغة التطبيقية في أعلى مستوياتها، من خلال حوار أدبي فلسفي يجسد معنى الإمتاع الفكري والإقناع الحواري.

  • الإقناع والإمتاع هدفان متكاملان للبلاغة العربية، الأول يعتمد على قوة الحجة والثاني على جمال التعبير، والكلام البليغ هو الذي يجمعهما معًا.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

.