بالتأكيد. إن عبارة "الأسلوبية والبلاغة العربية: مفارقة جمالية" هي عنوان ثري يلامس جوهر العلاقة المعقدة والخلاقة بين هذين الحقلين المعرفيين.
هذه ليست مجرد مقارنة، بل هي "مفارقة" – أي علاقة تجمع بين التوافق والاختلاف، التقارب والتباعد، في إطار واحد هو السعي لفهم جمالية النص العربي وإبداعه.
دعنا نحلل هذه المفارقة من عدة وجوه:
1. من حيث التعريف والمنطلق (الجذور والفلسفة)
البلاغة العربية: هي تراث تقليدي مؤسسي، يبحث في "مطابقة الكلام لمقتضى الحال" مع معايير محددة سلفًا. تقوم على ثلاثة أعمدة:
علم المعاني: (مطابقة الكلام لمقتضى الحال) - يهتم بالمعنى والسياق.
علم البيان: (التعبير عن المعنى الواحد بطرق مختلفة) - كالتشبيه والاستعارة والكناية.
علم البديع: (تحسين الكلام لفظًا ومعنى) - كالجناس والطباق.
منطلقها: تقنيني معياري. تحدد قواعد البلاغة "الصحيح" و"الفصيح" و"البليغ" وفق معايير ثابتة مستمدة من النصوص المقدسة (القرآن والحديث) والشعر الجاهلي.
الأسلوبية: هي منهج حديث تحليلي، تدرس الخصائص المميزة لأسلوب كاتب أو نص أو مرحلة أدبية. لا تبحث عن "مطابقة قالب" بل عن الانحراف عن المألوف والاستثناء والاختيارات الفردية التي تشكل بصمة النص.
منطلقها: وصفي تحليلي. لا تحكم على النص بـ"جودته" وفق معايير خارجية، بل تحلل كيف يعمل النص داخليًا لتحقيق تأثيره، سواء كان "جيدًا" أو "رديئًا" وفق المعايير التقليدية.
هنا تبدأ المفارقة: كلا الحقلين يهتمان بـ"جمالية" اللغة، لكن أحدهما تقنيني (البلاغة) والآخر وصفي (الأسلوبية).
2. من حيث مجال الدراسة (الرؤية والزاوية)
البلاغة: تركز على اللفظ والمعنى بشكل منفصل أحيانًا. تفحص الجملة أو الصورة البلاغية بمعزل عن السياق الأوسع أحيانًا (خاصة في علم البديع). تهتم بالإقناع (في الخطابة) والتخييل (في الشعر).
الأسلوبية: تنظر إلى النص ككل عضوي. تدرس العلاقة بين الشكل والمضمون، وتدمج بين المستويات اللغوية جميعها (الصوتية، الصرفية، النحوية، الدلالية) لاستخلاص الرؤية الفنية أو الفكرية للمؤلف. تهتم بكشف العالم الداخلي للكاتب من خلال اختياراته اللغوية.
المفارقة هنا: البلاغة قد تقطع النص إلى أجزاء (محسنات، صور بلاغية)، بينما تسعى الأسلوبية لتركيب رؤية موحدة من خلال هذه الأجزاء.
3. من حيث العلاقة: صراع أم تكامل؟
هذه هي النقطة الأهم في "المفارقة الجمالية". العلاقة بينهما ليست إلغاءً بل تكافل وتكامل:
البلاغة كمخزون تراثي للأسلوبية: توفر البلاغة العربية للأسلوبي معجمًا مصطلحيًا (استعارة، كناية، مجاز...) وأدوات تحليلية جاهزة. لا يمكن للأسلوبي الحديث أن يتجاهل هذا التراث الهائل.
الأسلوبية كتجديد للبلاغة: تقوم الأسلوبية بإحياء التراث البلاغي من خلال:
توظيفه توظيفًا حديثًا: باستخدام مناهج النقد الحديث (البنيوية، التداولية، التحليل النفسي...).
توسيع مجاله: تطبيق أدوات البلاغة على نصوص غير تقليدية (الرواية، القصة، المقالة، الخطاب السياسي والإعلامي).
تحريره من القيد المعياري: فالنص "غير البليغ" وفق معايير القدامى قد يكون مليئًا بالدلالات الأسلوبية المثيرة للدراسة (مثل لغة الشخصيات في الرواية).
خاتمة: إضاءة على "المفارقة الجمالية"
الجمالية هنا ليست في أحدهما دون الآخر، بل في التفاعل الحاصل بينهما.
جمالية البلاغة تكمن في اكتشاف النظام والقانون الكامن وراء الإعجاز القرآني وروائع الشعر العربي. إنها جمالية التناسق والانسجام مع نموذج مثالي.
جمالية الأسلوبية تكمن في اكتشاف individuality (الفردية) والخصوصية واللمسة الإنسانية الفريدة التي تميز كاتبًا عن آخر. إنها جمالية التفرد والانحراف الخلاق.
البلاغة تسأل: "كيف يوافق هذا النص النموذج البلاغي الأمثل؟"
الأسلوبية تسأل: "كيف يشكل هذا النص عالمه الفريد الخاص به؟"
وبالتالي، فإن العلاقة بينهما هي حقًا "مفارقة جمالية" مثمرة: حيث يلتقي التراث بالحداثة، والمعياري بالوصفي، والنموذج الجماعي بالبصمة الفردية، في سعي مشترك لكشف أسرار الجمال في اللغة العربية.

Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire