مقال تأطيري: رحلة الفكر الفلسفي من اليونان إلى العصر الحديث
تمثل الفلسفة رحلة الإنسان الفكرية في سعيه لفهم الوجود، والمعرفة، والقيم، والسياسة. انبثقت في اليونان القديمة عندما انتقل الفكر من التفسير الأسطوري (الميثوس) إلى التفسير العقلي البرهاني (اللوغوس)، مؤسسة بذلك لمشروع حضاري قائم على العقل والنقد.
حمل كتب الفلسفة للكاتب عقوني محمد
في المحور الأول، تظهر الفلسفة اليونانية بأبطالها: السفسطائيون الذين ركزوا على الإنسان ونسبية المعرفة، فجاء سقراط بفلسفته الأخلاقية القائمة على "اعرف نفسك" لتصحيح مسارهم. ثم تطور الفكر مع أفلاطون الذي صاغ نظرية المُثُل لفصل العالم الحقيقي (عالم الأفكار) عن العالم الظاهري (عالم المحسوسات). بينما قدم أرسطو، تلميذه، منهجًا شاملاً يحلل الجوهر والوجود في "الميتافيزيقا"، ووضع أسس المنطق. واختتمت الحقبة اليونانية بفلسفات هلنستية مثل الرواقية والأبيقورية، ركزت على السؤال الأخلاقي: كيف يعيش الإنسان حياة سعيدة؟
انتقلت القيادة الفكرية إلى أوروبا في الفلسفة الحديثة، حيث مثل ديكارت نقطة تحول مع "الشك المنهجي" و"الكوجيتو" الذي جعل من الذات المفكرة أساسًا لكل يقين. ثم جاء سبينوزا ليحل إشكالية الثنائية الديكارتية بتوحيده بين الله والطبيعة (الوحدة الجوهرية). وقدم لايبنتز نظرية "الْمُونَادَات" (الجواهر الفردة) لتفسير تركيب العالم. وتحدى هيوم كل اليقينيات بالمذهب التجريبي والشك في العلاقة السببية. ليجيء كانط بمشروعه النقدي لإنقاذ المعرفة والأخلاق من هذا الشك، محدثًا "ثورة كوبرنيكية" جعلت الموضوع يُكيِّف المعطيات الحسية وفق مقولات العقل.
أما الفلسفة المعاصرة، فقد شهدت قطيعة مع الميتافيزيقا التقليدية. نيتشه هز أركان الفكر الغربي بإعلانه "موت الإله" وتمجيده "لإرادة القوة". وركز هوسرل على دراسة الظواهر كما تظهر للوعي (الفينومينولوجيا) بمبدأ "إلى الأشياء ذاتها". بينما عمق هيدغر تحليل مفهوم الوجود (الدازاين) وعلاقته بالزمن. وسارتر جعل من الحرية المطلقة والمسؤولية أساس الوجود الإنساني. كما أولى ميرلو-بوني أهمية مركزية للجسد بوصله أداة الوعي والإدراك. وفي مجال فلسفة العلوم، قدم باشلار تحليلاً للعوائق الإبستمولوجية التي تعترض تقدم الفكر العلمي.
في المحور السياسي، انتقل الفكر من رؤية مكيافيللي الواقعية التي تفصل السياسة عن الأخلاق، إلى نظريات العقد الاجتماعي عند هوبز (الذي يبرر الحكم المطلق)، ولوك (الذي يدافع عن الحقوق الطبيعية والحكم البرلماني)، وروسو (الذي يصوغ مفهوم "الإرادة العامة"). ثم جاء ماركس ليفسر التاريخ عبر صراع الطبقات والمادية التاريخية، وحلل فيبر العلاقة بين الأخلاق البروتستانتية ونشأة الروح الرأسمالية.
وختامًا، يبقى سؤال المعرفة العلمية محوريًا، حيث تطورت فلسفة العلوم من منهج غاليلي القائم على الرياضيات والتجربة، إلى تحليلات باشلار للتطبيقية العلمية، ونقد بوبر للمعيار القابلية للتكذيب، وصولاً إلى نظرية "البراديغمات" والثورات العلمية عند توماس كون، مؤكدة أن تطور العلم ليس خطيًا بل قائم على قطائع وتحولات.
أسئلة وأجوبة نموذجية
1. ما الفرق بين الميثوس واللوغوس؟
الجواب: الميثوس هو الفكر الأسطوري القائم على السرد والحكايات عن الآلهة لتفسير الظواهر الطبيعية، وهو تفسير خيالي وغيبي. أما اللوغوس فهو الفكر العقلاني القائم على البرهان والاستدلال والبحث عن الأسباب الطبيعية، مؤسسًا بذلك للفلسفة والعلم.
2. كيف فهم سقراط عبارة "اعرف نفسك"؟
الجواب: لم يقصد سقراط معرفة تشريحية أو نفسية سطحية، بل قصد معرفةً أخلاقية: معرفة الفضائل والحق والخير والعدل التي تسكن النفس الإنسانية. معرفة الذات هي أساس كل حكمة وهي الطريق إلى الحياة الفاضلة.
3. ما هي نظرية المُثُل عند أفلاطون؟
الجواب: تقسم النظرية الوجود إلى عالمين:
عالم المثل: عالم intelligible مثالي، ثابت، أزلي، حقيقي، مصدر كل معرفة (مثل: مثال الخير، الجمال، العدل).
- العالم المحسوس: عالم sensible ظاهري، متغير، زائل، نسخة مشوهة عن عالم المثل.والمعرفة الحقيقية هي تذكر (anamnesis) للنفس للمثل التي شاهدتها قبل ولوجها الجسد.
4. ما هي "الثورة الكوبرنيكية" عند كانط؟
الجواب: هي مقاربة جديدة لمسألة المعرفة، شبّهها كانط بثورة كوبرنيكوس. فبدلاً من أن يكون العقل Passive يتلقى المعرفة من العالم (كما يعتقد التجريبيون)، يكون العقل Active فاعلاً ينظم معطيات التجربة الحسية وفق مقولات فطرية (كالسببية والكم والكيف). فالعالم يُعرف كما يظهر لنا (الظاهرة) وليس كما هو في ذاته (الشيء في ذاته).
5. ما معنى "موت الإله" عند نيتشه؟
الجواب: لا يقصد نيتشه الإله بالمعنى الديني فحسب، بل يقصد سقوط كل المثل العليا والمبادئ المطلقة (كالحق والخير) التي كان الغرب يؤمن بها. "موت الإله" يعني انهيار الأساس الميتافيزيقي الذي كانت تقوم عليه الحضارة الغربية، مما يفرض على الإنسان (الإنسان المتفوّق) أن يخلق قيمه بنفسه اعتمادًا على إرادة القوة.
6. ما الفرق بين "الإرادة العامة" عند روسو و"إرادة الكل"؟
الجواب:
إرادة الكل: هي مجرد مجموع الإرادات الفردية الخاصة، وهي تخضع للأهواء والمصالح الشخصية المتضاربة.
الإرادة العامة: هي إرادة المجتمع ككل بوصفه كيانًا أخلاقيًا موحدًا، وهي تهدف إلى المصلحة العامة والخير المشترك. هي إرادة عقلانية وموضوعية.
7. ما معيار "القابلية للتكذيب" عند كارل بوبر؟
الجواب: هو المعيار الذي يميز النظرية العلمية عن النظرية الزائفة (كالماركسية والتحليل النفسي). النظرية العلمية هي التي تكون قابلة للدحض والتفنيد بواسطة الاختبار والتجربة (مثل: نظرية النسبية). إذا تعذر دحض النظرية بأي تجربة محتملة، فهي ليست علمية، حتى لو بدت صحيحة.
خلاصة مركزة (ملخص سريع)
اليونانية: من الأسطورة إلى العقل (اللوغوس). سقراط: معرفة الذات. أفلاطون: عالم المثل. أرسطو: الجوهر والميتافيزيقا. الرواقية والأبيقورية: فضيلة المتعة والطمأنينة.
الحديثة: ديكارت: الكوجيتو أساس اليقين. سبينوزا: الله = الطبيعة. لايبنتز: المونادات. هيوم: شك في السببية. كانط: الثورة الكوبرنيكية (العقل ينظم التجربة).
المعاصرة: نيتشه: موت الإله وإرادة القوة. هوسرل: إلى الأشياء ذاتها. هيدغر: سؤال الوجود. سارتر: الوجود يسبق الماهية، حرية مطلقة. باشلار: عوائق المعرفة.
السياسية: مكيافيللي: السياسة منفصلة عن الأخلاق. هوبز: العقد الاجتماعي يفضي إلى حكم مطلق (اللفياثان). لوك: الحقوق الطبيعية والتسامح. روسو: الإرادة العامة. ماركس: صراع الطبقات. فيبر: الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية.
علوم: غاليلي: الرياضة + التجربة. بوبر: معيار القابلية للتكذيب. كون: العلم يسير عبر براديغمات وثورات.
امتحان نموذجي
الكوجيتو (ديكارت)
الإرادة العامة (روسو)
البراديغم (توماس كون)
الموضوع الأول: قال ديكارت: "أنا أفكر، إذن أنا موجود".
اشرح هذا القول مبينًا السياق العام (الشك المنهجي) الذي ظهر فيه.
ما هي دلالته وأهميته في تاريخ الفلسفة؟
الموضوع الثاني: "الإنسان محكوم عليه أن يكون حرًا" (سارتر).
حلل وفسر هذا القول مبينًا أسسه داخل الفلسفة الوجودية.
ما هي النتائج المترتبة عن هذه الحرية (مسؤولية، قلق، التزام)؟
نموذج إجابة الامتحان النموذجي (مختصر):
الجزء الأول:
الكوجيتو: هو أول يقين توصل إليه ديكارت بعد شكه في كل شيء. وهو يعني "الأنا أفكر، إذن أنا موجود" (Cogito ergo sum). يؤسس هذا اليقين لحقيقة الوجود كذات مفكرة (نفس، عقل) وهي حقيقة بديهية لا تقبل الشك.
الإرادة العامة: مفهوم مركزي عند روسو، وهي لا تمثل مجموع الإرادات الخاصة (إرادة الكل) بل تمثل الإرادة المشتركة التي تهدف إلى تحقيق المصلحة العامة والخير للجميع، وهي أساس السيادة في نظريته عن العقد الاجتماعي.
الجزء الثاني:
موقف السفسطائيين: يرون أن الحقيقة نسبية، والإنسان "مقياس كل شيء" كما قال بروتاغوراس، أي أن الحقيقة تختلف باختلاف الأفراد والثقافات، ولا وجود لحقيقة مطلقة.
موقف سقراط: يعتقد بوجود حقيقة مطلقة وثابتة، خاصة في المجال الأخلاقي (كالخير والعدل). ومهمة الفيلسوف هي اكتشاف هذه الحقيقة عبر الحوار والجدل لتوليد المعرفة من داخل النفس (التوليد).
الجزء الثالث (اختيار الموضوع الأول كمثال):
الشرح والسياق: ظهر قول الكوجيتو في سياق "الشك المنهجي" الذي استخدمه ديكارت كأداة للوصول إلى اليقين. شك في المعطيات الحسية (لخداعها)، وفي الرياضيات (بفرضية Genius Malignus)، ووصل إلى حافة الهاوية. في لحظة الشك هذه، لاحظ أنه حتى وهو يشك، فهو يفكر. وبما أنه يفكر، فلا بد أنه موجود. فكانت أول حقيقة يقينية.
الدلالة والأهمية: مثل الكوجيتو نقطة تحول في تاريخ الفلسفة، حيث:
جعل من الذات المفكرة (Subject) الأساس والأول في بناء المعرفة، مؤسسًا بذلك للذاتية الحديثة.
فتح الطريق أمام الفلسفة للانشغال بمسائل الوعي والمعرفة الذاتية.
كان حجر الأساس في بناء نظامه الفلسفي العقلاني، حيث استخدم اليقين بالذات للبرهنة على وجود الله والعالم الخارجي.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire