مأزق علماء النفس في التعليم العالي
بالتأكيد. إن "المأزق" الذي يعيشه علماء النفس في التعليم العالي هو ظاهرة معقدة ومتعددة الأوجه، حيث يجدون أنفسهم عالقين بين مطالب متضادة وقواعد لعب متغيرة. هذا المأزق لا يقتصر على الضغوط الأكاديمية العامة، بل يتعمق بسبب الطبيعة المزدوجة لتخصصهم الذي يجمع بين العلم (Science) والممارسة (Practice).
يمكن تفصيل هذا المأزق في عدة نقاط رئيسية:
1. الصراع بين الهويتين: الباحث مقابل الممارس (The Scientist-Practitioner Gap)
هذا هو جوهر المأزق. النموذج السائد في العديد من كليات علم النفس هو "الباحث الممارس"، لكن التطبيق العملي يصبح صعبًا للغاية.
ضغوط النشر البحثي: يُقاس نجاح الأكاديمي أولاً وقبل كل شيء بعدد الأبحاث المنشورة في مجلات مفهرسة ذات معامل تأثير مرتفع. هذا يتطلب وقتًا طويلاً لجمع البيانات، وتحليلها، وكتابة الأوراق البحثية.
إهمال المهارة السريرية/التطبيقية: لا تحظى المهارات العملية مثل العلاج النفسي، أو الإرشاد، أو الاستشارات المؤسسية بنفس التقدير أو النقاط في الترقيات. قد يُنظر إلى قضاء الوقت في العيادة على أنه انحراف عن "المسار الأكاديمي الحقيقي".
النتيجة: يصبح الأكاديمي باحثًا ممتازًا ولكن قد تضعف مهاراته السريرية، أو العكس، إذا ركز على الممارسة، فإن مسيرته الأكاديمية تتوقف.
2. أزمة التمويل والموارد (Funding and Resource Crunch)
المنافسة الشديدة: التمويل البحثي (مثل المنح من الجهات الوطنية) أصبح شديد التنافسية. يقضي الأساتذة ساعات لا تحصى في كتابة مقترحات بحثية قد لا تحصل على التمويل.
العبء التدريسي الثقيل: زيادة أعداد الطلبة دون زيادة متناسبة في عدد أعضاء هيئة التدريس تؤدي إلى عبء تدريسي كبير، مما يقلل الوقت المتاح للبحث أو الممارسة.
البيروقراطية: تزايد الأعمال الإدارية والتقارير التي يجب على الأكاديمي إكمالها، مما يستهلك الطاقة والوقت الذي كان يمكن تخصيصه للأنشطة الأساسية.
3. الضغوط التعليمية والتربوية (Educational Pressures)
التعليم لسوق العمل vs. التعليم الأكاديمي النظري: هناك فجوة بين ما يتم تدريسه في المناهج الأكاديمية النظرية ومتطلبات سوق العمل خارج الأوساط الأكاديمية. يشعر الأساتذة بالضغط لإعداد الطلاب للعمل في العيادات والمدارس والشركات، بينما تظل المناهج في كثير من الأحيان مركزة على النظرية والمنهجية البحثية.
الرقمنة والتعلم عبر الإنترنت: الحاجة إلى تطوير مواد تعليمية رقمية جذابة وفعالة، والتي تتطلب مهارات وتقنيات جديدة قد لا يكون الأستاذ الجامعي مدربًا عليها.
رعاية الطلاب: تزايد الوعي بالمشكلات النفسية للطلاب (القلق، الاكتئاب، الضغط النفسي) يضع عبئًا إضافيًا على أساتذة علم النفس، الذين يُتوقع منهم غالبًا أن يكونوا خط الدفاع الأول في الدعم النفسي، إلى جانب دورهم التعليمي والبحثي.
4. التحديات الأخلاقية والمهنية (Ethical and Professional Challenges)
الانحياز في الأبحاث: الضغط للنشر يمكن أن يؤدي أحيانًا إلى ممارسات بحثية مشكوك فيها (p-hacking، انتقاء النتائج) أو حتى إلى انتحال علمي.
الازدواجية في العلاقات: عندما يكون الأكاديمي معالجًا نفسيًا وأستاذًا في نفس الوقت، قد تنشأ تعقيدات أخلاقية، مثل طلب طلابه منه أن يكون معالجهم الشخصي.
الحفاظ على الحياد: من الصعب بشكل متزايد مناقشة بعض المواضيع النفسية الحساسة (مثل الفروق بين الجنسين، علم النفس التطوري) في بيئة أكاديمية قد تكون شديدة الحساسية سياسيًا.
5. العزلة والضغط النفسي (Isolation and Burnout)
بيئة تنافسية غير داعمة: يمكن أن تؤدي ثقافة "النشر أو الإبادة" (Publish or Perish) إلى بيئة عمل سامة، حيث يقل التعاون ويزداد الانعزال والضغط النفسي.
الإرهاق (Burnout): الجمع بين متطلبات التدريس، والإشراف على الرسائل، والبحث، والإدارة، والممارسة (إذا وجدت) يؤدي إلى استنزاف طاقة الأكاديمي ويجعله عرضة للإرهاق والضغط النفسي المزمن، وهو أمر مثير للسخرية نظرًا لأنه خبير في الصحة النفسية.
الخلاصة والحلول الممكنة:
المأزق الحقيقي هو أن نظام التعليم العالي الحالي يكافئ جانب "العالم" (Scientist) بينما يتجاهل إلى حد كبير جانب "الممارس" (Practitioner)، مما يخلق صراعًا داخليًا ويحد من تأثير علم النفس على أرض الواقع.
بعض الحلول المقترحة للخروج من هذا المأزق:
إصلاح نظام التقييم والترقية: يجب أن تعترف الجامعات بالتطبيق المهني، والاستشارات، والخدمة المجتمعية، والتدريس المتميز كمعايير للترقية إلى جانب الأبحاث المنشورة.
تعزيز التعاون: خلق مساحات للتعاون بين الأقسام الأكاديمية والعيادات والمراكز الاستشارية، مما يسمح بتبادل الخبرات وتقليل الفجوة بين النظرية والتطبيق.
تبني نماذج أكاديمية أكثر مرونة: السماح لأعضاء هيئة التدريس بالتخصص أكثر، بحيث يمكن لبعضهم التركيز على البحث والبعض الآخر على التدريس أو الممارسة، مع تقدير جميع المسارات بالتساوي.
دعم الصحة النفسية لأعضاء هيئة التدريس: توفير موارد للحد من الإرهاق وتعزيز بيئة عمل داعمة بدلاً من البيئة التنافسية المدمرة.
في النهاية، الخروج من هذا المأزق يتطلب إعادة نظر جذرية في ثقافة التعليم العالي وما الذي نُقدّره حقًا في علم النفس: هل هو عدد الأوراق المنشورة فقط، أم هو التأثير الإيجابي على ح الأفراد والمجتمع؟

Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire