الالتزام في الشعر العربي الحديث

 

الالتزام في الشعر العربي الحديث: بين نداء الواقع وحرية الفن

شكّل مفهوم "الالتزام" (Engagement) واحدًا من أبرز الإشكاليات النقدية والأدبية التي طبعت الشعر العربي الحديث في منتصف القرن العشرين، ليتحول من شعر ذاتي يهتم بالعواطف الفردية والصور الجمالية المجردة، إلى صوت جماعي يعبّر عن هموم المجتمع وقضاياه المصيرية.

نشأ هذا المفهوم في البيئة العربية متأثرًا بالأفكار الاشتراكية والوجودية الأوروبية، خاصة عبر الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر الذي رأى أن الكاتب "ليس مسؤولًا عن كلماته فحسب، بل عن كل الجرائم التي تُرتكب دون أن يرفضها". وقد وجد هذا الفيلسوف أرضًا خصبة في الواقع العربي المتأزم آنذاك، تحت نير الاستعمار وصراع الطبقات ونتائج النكبة الفلسطينية عام 1948.

اتخذ الالتزام في الشعر العربي شكلين رئيسيين:

1. التزام اجتماعي: ينحاز الشاعر للفقراء والمهمشين والطبقة الكادحة، منتقدًا أوضاع الظلم والاستغلال، كما عند أمير الشعراء أحمد شوقي في بعض قصائده الاجتماعية، ثم بشكل أعمق عند بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي.

2. التزام سياسي ووطني: يجعل الشاعر من قصيدته سلاحًا للمقاومة ووسيلة للتعبئة، مناصرًا لقضايا التحرر الوطني، وأبرز مثال عليها هو الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي جعل من قصيدته هويةً للمقاومة وذاكرةً للوطن.

لم يكن هذا التحول سلسًا، فقد دار جدل حاد بين أنصار "الفن للفن" الذين رأوا أن الجمالية الشعرية غاية في ذاتها، وأن خلطها بالأيديولوجيا يفسدها، وبين أنصار "الفن للمجتمع" الذين اعتبروا أن قيمة العمل الفني تكمن في منفعته وتأثيره الإيجابي في المجتمع.

وقد نجح رواد الشعر الحديث، من خلال توظيف الرمز والأسطورة والصورة المحسوسة، في تقديم قصيدة ملتزمة تحافظ على مقوماتها الجمالية دون أن تكون خطابًا مباشرًا أو شعارات جوفاء. فقصيدة "أنشودة المطر" للسياب ليست مجرد حديث عن المطر، بل هي صرخة بألم الفلاح العراقي المتعطش للخير والحياة.

في الختام، يمكن القول إن الالتزام كان مرحلة ضرورية في تطور الشعر العربي، جعلته أكثر قربًا من نبض الشارع العربي وهمومه، وأثبت أن الشعر يمكن أن يكون جماليًا عميقًا دون أن ينفصل عن واقعه، بل يكون صوتًا له وضميرًا ناقدًا.

---

أسئلة وأجوبة: النقد والتقويم والرأي

1. أسئلة تحليل الرأي والحجج:

• س: ما الحجج التي قد يقدمها أنصار "الفن للفن" لمعارضة مفهوم الالتزام؟

  • ج: يرى أنصار "الفن للفن" أن:

    1. الغاية الأساسية للأدب هي الإمتاع الجمالي وخلق عالم فني خالص.

    2. الالتزام بالأيديولوجيا (الفكرية/السياسية) يقيد حرية المبدع ويحد من خياله.

    3. تحويل القصيدة إلى أداة للدعاية أو الخطاب المباشر يفقدها قيمتها الفنية ويجعلها مجرد منشور.

    4. الفن الخالد هو الذي يتناول القيم الإنسانية العامة وليس القضايا السياسية العابرة.

• س: كيف استطاع الشعراء الملتزمون تقديم قضاياهم دون الوقوع في المباشرة والخطابية؟ حلل ذلك.

  • ج: تجنب الشعراء الملتزمون المباشرة من خلال:

    • توظيف الرمز: كاستخدام "العنقاء" أو "السندباد" للدلالة على الأمل أو التيه.

    • استخدام الأسطورة: كاستخدام أسطورة "عشتار" و"تموز" عند السياب لإضفاء بعد تراجيدي عميق على معاناة الإنسان.

    • بناء الصورة المحسوسة: الاعتماد على الصورة الحسية الملموسة (كالمطر، القمح، السفن) لنقل الأفكار المجردة.

    • اللغة الموحية: استخدام لغة شعرية إيحائية غنية بالتشابيه والاستعارات بدلاً من اللغة المباشرة.

2. أسئلة التركيب والتقويم:

• س: إلى أي مدى يمكن اعتبار تجربة محمود درويش نموذجًا ناجحًا للشعر الملتزم؟ برر رأيك.

  • ج: (رأي شخصي قابل للنقاش) تعتبر تجربة محمود درويش نموذجًا ناجحًا بامتياز للشعر الملتزم لأنها:

    1. تجاوزت الخطاب المباشر: لم تكن قصائده شعارات للمقاومة فحسب، بل كانت غنية بالرمز والإنسانية (كما في "أحن إلى خبز أمي").

    2. جمعت بين الذاتي والجماعي: عبر عن حب الوطن من خلال مشاعر الحب والفراق الشخصية، مما جعلها أقرب إلى المتلقي.

    3. حافظت على الجمالية الفنية: كان درويش شاعرًا مبدعًا في صياغته للغة وصوره الشعرية، مما جعل شعره فنيًا خالدًا بغض النظر عن سياقه السياسي.

    4. ارتبط بقضية عادلة: جعل من القضية الفلسطينية قضية إنسانية عالمية من خلال شعره.

• س: قوّم أثر الالتزام على مسيرة الشعر العربي الحديث، مبينًا إيجابياته وسلبياته.

  • ج:

    • الإيجابيات: جدد دماء الشعر، جعله وسيلة للتغيير الاجتماعي والسياسي، رفعه من دائرة الترف إلى دائرة الضرورة، قدّم نماذج شعرية عظيمة جمعت بين الفن والموقف.

    • السلبيات: أدى في بعض التجارب (خاصة الهابطة) إلى تفريغ الشعر من جماليته وتحويله إلى خطاب دعائي سطحي، sometimes limited the poet's creativity by subjecting it to a specific ideology.

---

نصائح لطلبة البكالوريا

1. اربط المفهوم بالسياق التاريخي: لا تنفصل فكرة الالتزام عن ظروف الاستعمار والنكبة وصراع التحرر.

2. احفظ الأمثلة جيدًا: اعتمد على شعراء محدودين ولكن بشكل عميق (السياب، البياتي، درويش، نازك الملائكة) واقتبس من نصوصهم.

3. ميز بين الأنواع: فرق بين الالتزام السياسي والاجتماعي، واعرف خصائص كل منهما.

4. لا تهمل الرأي المعارض: حتى تبدع في الإجابة، يجب أن تذكر وجهة نظر أنصار "الفن للفن" ثم تقدم حججك لدعم أو نقد هذه الوجهة.

5. استخدم المصطلحات النقدية بدقة: مثل (الرمز، الأسطورة، الصورة الشعرية، الخطاب، الأيديولوجيا، الذاتي والجماعي).

---

خلاصة الموضوع

• الالتزام هو موقف أخلاقي وأدبي يربط الشاعر بقضايا مجتمعه وهمومه.

• نشأ متأثرًا بالفكر الوجودي والأوروبي والواقع العربي المأزوم.

• أنواعه: اجتماعي (مناصرة الفقراء) وسياسي (مناصرة القضايا القومية).

• رواده: بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي، نازك الملائكة، محمود درويش.

• أدواته: الرمز، الأسطورة، الصورة الموحية.

• إيجابياته: ربط الشعر بالواقع وجعله أداة للتغيير.

• سلبياته: قد يؤدي إلى المباشرة والخطابية على حساب الجمال الفني إذا أسيء استخدامه.

---

امتحان نموذجي مع الحل

السؤال: "إن الشعر الملتزم هو شعر يعيش بقضايا أمته، ويصبح صوتها المعبّر عن آمالها وآلامها". في ضوء هذه العبارة، وفي استحضارك لنماذج من الشعر العربي الحديث، اكتب مقالًا نقديًا تتناول فيه مفهوم الالتزام ومظاهره وأثره.

مخطط مقال مقترح (الإجابة النموذجية):

المقدمة: (طرح الإشكالية)
الالتزام مذهب أدبي يجعل من الأدب وسيلة للتعبير عن قضايا المجتمع وهمومه... وقد شكّل محورًا أساسيًا في الشعر العربي الحديث، فهل استطاع الشعراء تحقيق التوازن بين التزامهم القضائي وضرورات الفن الجمالية؟

العرض:

1. الفكرة الأولى: تعريف الالتزام وعوامله (السياق التاريخي والفكري).

   • تعريف الالتزام لغة واصطلاحًا.

   • العوامل التي ساعدت على ظهوره: التأثر بالفكر الغربي (سارتر)، الواقع العربي (استعمار، نكبة، صراع طبقي).

2. الفكرة الثانية: مظاهر الالتزام وأنواعه من خلال نماذج تطبيقية.

   • الالتزام الاجتماعي: نقد الظلم ومناصرة الفقراء (نماذج من شعر البياتي مثل "ذيول" أو نازك الملائكة في "كناري").

   • الالتزام السياسي والوطني: قضية فلسطين (محمود درويش - "سجّل أنا عربي" أو "عابرون في كلام عابر")، قضية التحرر (السياب في "أنشودة المطر" التي تعبر عن أمل الشعب بالخلاص).

3. الفكرة الثالثة: أثر الالتزام (تقويم ونتائج).

   • الإيجابي: تجديد الدماء في الشعر، ربطه بالجمهور، جعله سلاحًا فاعلاً.

   • السلبي: خطر تحوله إلى شعارات وإطاريح مباشرة في بعض التجارب الضعيفة.

   • الرأي الشخصي: التأكيد على أن النماذج الرائدة (درويش، السياب) نجحت في الجمع بين العمق الجمالي والعمق الفكري، مما أنتج شعرًا خالدًا.

الخاتمة: (استنتاج)
يمكن الختم بأن الالتزام كان مرحلة محورية جعلت الشعر العربي الحديث أكثر نضجًا وإنسانية، حيث انتقل من دائرة الذات الضيقة إلى دائرة الجماعة الواسعة، دون أن يتخلى عن مقوماته الفنية، بل استخدم أدوات فنية جديدة (كرمز وأسطورة) ليعبر عن هذا المضمون الجديد، فكان بحق صوت أمته وضميرها النابض.