آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الشخصية: نتاج تفاعل المجتمع والذات


مقال فلسفي: هل الشخصية حصيلة التنشئة الاجتماعية أم نتاج إرادة ذاتية؟

مقدمة:
شكلت الشخصية الإنسانية إشكالية فلسفية مركزية، حيث تتداخل عوامل متعددة في تشكيلها. فهل نحن مجرد نتاج حتمي للمجتمع والتربية والبيئة التي ننشأ فيها، أم أننا نمتلك إرادة ذاتية حرة قادرة على تشكيل هويتها وتجاوز قيود التنشئة؟ هذا الإشكال يضع النظرة الحتمية (الجبرية) في مواجهة النظرة التحررية (التفاؤلية)، ويدفعنا إلى التساؤل: أين تتوقف تأثيرات المجتمع وأين تبدأ مسؤولية الفرد في بناء شخصيته؟

التوسيع (عرض الأطروحات والحجج):

1. الأطروحة الأولى: الشخصية حصيلة التنشئة الاجتماعية (المذهب الاجتماعي/ الحتمية الاجتماعية)
ينطلق أنصار هذا المذهب، وأبرزهم إميل دوركايم، من فكرة أن الفرد هو منتج اجتماعي بالدرجة الأولى. فالمجщество، من خلال مؤسساته (الأسرة، المدرسة، الدولة)، يقوم بصياغة وعي الأفراد وتوجيه سلوكهم وفق قيم ومعايير المجتمع. فالشخصية، بهذا المعنى، هي "استبطان" أو استدماج للقواعد الاجتماعية.

  • الحجج:

    • دور التربية: الأسرة هي النواة الأولى التي تنقل اللغة والعادات والمعتقدات. الطفل يتشرب قيم محيطه دون تمييز.

    • دور المدرسة: كما يرى دوركايم، المدرسة هي المؤسسة التي تواصل عملية "الاستبطان" هذه بطريقة منهجية، فهي تعلم الطفل الانضباط والتعاون والشعور بالواجب، مما يجعله فردًا منسجماً مع المجتمع.

    • اللغة: اللغة ليست أداة تواصل محايدة، بل هي نظام يحمل في طياته رؤية العالم للجماعة المتكلمة بها، كما يرى عالم اللسانيات فرديناند دو سوسور. فالتفكير ذاته مشروط باللغة التي ورثناها.

    • الحتمية البيئية: يذهب علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا إلى أن اختلاف العادات والتقاليد والقيم من مجتمع لآخر دليل قوي على أن الشخصية هي مرآة تعكس بيئتها.

2. الأطروحة الثانية: الشخصية نتاج إرادة ذاتية (المذهب الوجودي/ الحرية)
يعارض هذا المذهب النظرة الحتمية، ويؤكد على أولوية الفرد وحرية إرادته في تشكيل ذاته. الفيلسوف جان بول سارتر يلخص هذا الموقف في مقولته الشهيرة: "الوجود يسبق الماهية". الإنسان يوجد أولاً، ثم يصنع ماهيته (شخصيته) من خلال خياراته وأفعاله. نحن "محكومون بالحرية".

  • الحجج:

    • الوعي والمسؤولية: الإنسان كائن واعٍ قادر على التفكير والتأمل في ذاته وفي شروط وجوده. هذه القدرة تمنحه إمكانية رفض التنميط والتمرد على القيم الجاهزة.

    • التجارب الفردية: كل فرد فريد من نوعه. حتى داخل الأسرة الواحدة، نجد اختلافات جذرية في الشخصيات بين الأشقاء رغم تشابه بيئتهم التنشئوية، مما يدل على وجود عامل ذاتي فاعل.

    • القدرة على التغيير: التاريخ مليء بأمثلة لأفراد تجاوزوا محدداتهم الطبقية والاجتماعية والاقتصادية الصعبة (كالفقر أو المرض) ليصنعوا لأنفسهم شخصية استثنائية بإرادتهم (مثل هيلين كيلر، أو نيلسون مانديلا).

    • النقد الاجتماعي: القدرة على نقد المجتمع وتقاليده دليل على أن الذات ليست سلبية، بل هي قادرة على اتخاذ مسافة نقدية تجاه ما تنشأ عليه.

3. التركيب (محاولة التوفيق بين الأطروحتين):
لا يمكن فهم تشكيل الشخصية بشكل ثنائي متقاطع (إما المجتمع وإما الذات)، بل هي عملية تفاعلية معقدة. الفيلسوف موريس ميرلوبونتي يرى أن الجسد هو وساطتنا مع العالم؛ فنحن لا نخضع للحتمية بشكل مطلق ولا نتمتع بحرية مطلقة. الشخصية هي نتاج تفاعل بين ما هو مُعطى (الوراثة، المجتمع، الثقافة) وما هو مكتسب (الخيارات، التجارب، الإرادة).

المجتمع يقدم لنا الإطار والمواد الأولية (اللغة، القيم، المعايير)، ولكن الإرادة الذاتية هي التي تتعامل مع هذه المواد، تختار منها، ترفض بعضها، تعدّل في أخرى، وتصنع منها تركيباً فريداً هو "الشخصية". التنشئة الاجتماعية تشرطنا ولكنها لا تحددنا بشكل كلي، لأن الوعي يمنحنا القدرة على تجاوز هذا الشرط.

خاتمة:
في الختام، يتجاوز الجدال حول تشكيل الشخصية الثنائية المبسطة. فالشخصية الإنسانية ليست حصيلة تنشئة اجتماعية بحتة، ولا هي نتاج إرادة ذاتية خالصة، بل هي بناء ديناميكي مستمر، حبله السري هو التفاعل بين الفرد والمجتمع. الذات تتشكل في المجتمع، ولكنها قادرة أيضاً على تشكيله.، تكمن حرية الإنسان ومسؤوليته ليس في إنكاره لشروط وجوده، بل في كيفية تعامله معها ومواصلته لبناء ذاته بشكل نقدي وإرادي ضمنها.


أسئلة وأجوبة (تحليل، نقد، تقويم، رأي):

1. أسئلة تحليل الرأي والحجج:

  • س: ما الأساس الذي تستند إليه النظرة الحتمية للشخصية؟

    • ج: تستند إلى الملاحظة العلمية لاختلاف الشخصيات باختلاف الثقافات والمجتمعات، وإلى دور مؤسسات التنشئة (أسرة، مدرسة) في نقل قيم المجتمع بشكل قسري أحياناً.

  • س: كيف يدعم مفهوم سارتر "الوجود يسبق الماهية" فكرة الإرادة الذاتية؟

    • ج: لأنه يعني أن الإنسان لا يولد بشخصية محددة سلفاً (ماهية)، بل يوجد أولاً ثم يتحمل مسؤولية صنع هذه الماهية من خلال خياراته الحرة وأفعاله، مما يجعل الشخصية مشروعاً مفتوحاً وليس قدراً محتوماً.

2. أسئلة النقد والتقويم:

  • س: نقد وجهة النظر الحتمية.

    • ج: إغفالها للفروق الفردية بين الأشخاص الذين نشأوا في البيئة نفسها (مثل الأخوة). كما أنها تلغي مسؤولية الفرد الأخلاقية وتجعل منه كائناً سلبياً، وهو ما يتناقض مع فكرة المحاسبة والعدالة.

  • س: نقد وجهة النظر الوجودية (الإرادة الذاتية).

    • ج: يمكن اتهامها بالمثالية، فهي قد تتجاهل القيود الاجتماعية والاقتصادية والبيولوجية القاسية التي يمكن أن تشلّ الإرادة الذاتية تماماً (كالفقر المدقع أو القمع السياسي). ليست كل الإرادات متساوية في القدرة على التشكيل.

3. أسئلة التركيب والتقويم:

  • س: كيف يمكن التوفيق بين تأثير التنشئة الاجتماعية والإرادة الذاتية في بناء الشخصية؟

    • ج: كما جاء في التركيب، يمكن اعتبار التنشئة الاجتماعية هي "المادة الخام" أو "الإطار" الذي نعمل فيه، بينما الإرادة الذاتية هي "الفنان" أو "الصانع" الذي يشكل هذه المادة. المجتمع يقدم لنا الأدوات والقيود، ونحن نستخدمها لبناء شخصيتنا بشكل إبداعي ونقدي.

4. أسئلة الرأي الشخصي (ممكنة في الامتحان):

  • س: إلى أي مدى تشعر أن شخصيتك هي نتاج تنشئتك الاجتماعية وأيها نتاج اختياراتك؟

    • ج: (إجابة نموذجية) أعتقد أن الأساسيات الأولى لشخصيتي (لغتي، ديني، عاداتي الأساسية) هي هبة من التنشئة الاجتماعية دون شك. لكن مع النضج، أصبح لديَّ القدرة على مراجعة هذه الأساسيات، قبول بعضها، رفض أو تعديل البعض الآخر، وإضافة ما تعلمته من قراءات وتجارب حياتية. لذا، فأنا أرى أن التنشئة هي نقطة البداية، ولكن المسار النهائي هو نتاج حوار مستمر بيني وبين هذه التنشئة.


نصائح لطلبة البكالوريا:

  1. افهم المفاهيم: تأكد من فهمك لمفاهيم مثل "الحتمية"، "الحرية"، "الاستبطان"، "الوجودية"، "التنشئة الاجتماعية".

  2. اربط بين النظريات وأسماء أصحابها: لا تقل "يقول أحد الفلاسفة"، بل سمِّ الفيلسوف وربطه بأطروحته (دوركايم مع المجتمع، سارتر مع الحرية...).

  3. استخدم الأمثلة: عزز حججك بأمثلة واقعية أو تاريخية أو من حياتك الشخصية (بشكل مختصر ومباشر).

  4. اهتم بفقرة التركيب: هي التي تظهر نضجك الفكري وقدرتك على تجاوز المواقف المتعارضة وليس فقط عرضها.

  5. راجع الخطوات المنهجية للمقال: المقدمة (طرح الإشكال)، العرض (معالجة الإشكال)، الخاتمة (التركيب والاستنتاج النهائي).


خلاصة:

  • الإشكالية: جدال بين الحتمية الاجتماعية والحرية الفردية في تشكيل الشخصية.

  • أطروحة الحتمية الاجتماعية (دوركايم): الشخصية هي نتاج استبطان القيم والمعايير الاجتماعية عبر مؤسسات التنشئة.

  • أطروحة الإرادة الذاتية (سارتر): الشخصية هي مشروع حر يصنعه الفرد عبر خياراته ومسؤولياته ("الوجود يسبق الماهية").

  • التركيب (ميرلوبونتي): الشخصية هي نتاج تفاعل بين شروط التنشئة الاجتماعية (الإطار والمواد) والإرادة الذاتية للفرد (الصانع والناقد). لا حرية مطلقة ولا حتمية مطلقة.


امتحان نموذجي مع الحل:

السؤال: "قيم دور التنشئة الاجتماعية في بناء الشخصية."

الإجابة النموذجية (مخطط مقال):

مقدمة: طرح الإشكال حول مدى فعالية التنشئة الاجتماعية في تشكيل الشخصية وهل تأثيرها حتمي.

عرض:

  1. دور إيجابي وأساسي: (عرض أطروحة دوركايم)

    • التنشئة هي عملية نقل للثقافة من جيل إلى آخر.

    • توفر الهوية الجماعية وتضمن الاستقرار الاجتماعي.

    • بدونها، يصبح الفرد منعزلاً وغير قادر على التواصل (حالات الأطفال المتوحشين).

  2. حدود هذا الدور: (نقد الأطروحة)

    • وجود فروق فردية حتى داخل نفس البيئة التنشئوية.

    • إمكانية أن تنتج التنشئة شخصيات متمردة أو منحرفة (كما في نظرية "اللامعيارية" عند دوركايم نفسه).

    • إغفالها للعامل البيولوجي والوراثي والذاتي.

  3. التقويم والتركيب: (محاولة التوفيق)

    • التنشئة الاجتماعية شرط ضروري ولكن غير كافٍ لتشكيل الشخصية.

    • هي تقدم الإمكانيات والحدود، ولكن الإرادة الذاتية هي التي تفعل هذه الإمكانيات وتتحدى هذه الحدود.

    • تبقى المسؤولية النهائية على عاتق الفرد في كيفية التعامل مع إرثه التنشئوي.

خاتمة: على الرغم من الأهمية البالغة للتنشئة الاجتماعية في providing الإطار والمواد الأولية لبناء الشخصية، إلا أنها لا تلغي دور الإرادة الذاتية في تشكيل هذه الشخصية بشكل فريد ونقدي، مما يجعل الشخصية نتاجاً لهذا التفاعل المستمر.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

.