المقال الفلسفي
السؤال: إلى أي حد يمكن القول بأن الذات هي من يصنع قيمه؟
المقدمة (طرح الإشكالية):
شكلت مسألة القيم إحدى الإشكاليات المركزية في الفكر الفلسفي، إذ تتعلق بطبيعة المبادئ التي تحكم سلوكنا وتوجه اختياراتنا. وإذا كانت القيم تمثل معايير أخلاقية وجمالية نرتقي بها فوق الغريزة، فإن السؤال عن مصدرها يظل مطروحًا: هل تنبع من أعماق الذات الإنسانية، ككائن حر وعاقل، فتصنعها بإرادتها وتجربتها الحياتية؟ أم أنها مفروضة عليها من الخارج، عبر المجتمع والدين والتربية، لتكون مجرد متلقٍ سلبي لها؟ بمعنى آخر، ألا يمكن أن تكون الذات حرة في ابتكار قيمها وفي نفس الوقت خاضعة لقيم سابقة عليها؟ هذه الإشكالية تدفعنا إلى تحليل أطروحة أن الذات هي من يصنع قيمه، وبيان حدود هذه الأطروحة، سعياً نحو تصور متوازن يجمع بين حرية الفرد وضرورة الانتماء إلى الجماعة.
التوسيع (عرض التحليل):
1- الذات كمصدر أصيل للقيم: الأطروحة الوجودية (موقف سارتر):
يدافع أنصار التيار الوجودي، وعلى رأسهم جان بول سارتر، عن فكرة أن الإنسان يصنع ذاته وقيمه بنفسه عبر اختياراته وحريته المطلقة. فالإنسان، في نظر سارتر، "محكوم عليه أن يكون حرًا". ليس له جوهر ثابت أو طبيعة محددة سلفًا، بل هو يوجد أولاً ثم يُعرّف نفسه لاحقًا من خلال أفعاله. القيم، بالتالي، ليست معطاة جاهزة (لا من الله ولا من الطبيعة ولا من المجتمع)، بل يبتكرها الإنسان من العدم بكل حرية ومسؤولية. عندما أختار، فإنني لا أختار لنفسي فحسب، بل أختار نموذجًا للإنسان الذي يجب أن يكون، وبالتالي أخلق قيمة أعتبرها صالحة للجميع. القيمة تنبع من الفعل وليس العكس. قول سارتر الشهير: "الإنسان هو ما يفعله بنفسه" يلخص هذا الموقف، حيث تكون الذات هي الصانعة الوحيدة لمصيرها وللقيم التي تؤمن بها.
2- نقد الأطروحة وبيان حدودها: الذات كمنتج للقيم الاجتماعية (موقف دوركايم):
في المقابل، يرى علماء الاجتماع مثل إميل دوركايم أن الفرد ليس سيد قيمه بشكل مطلق، بل هو ابن مجتمعه. فـ "الضمير الجمعي"، بمجموعة من المعتقدات والمشاعر المشتركة، هو الذي يفرض على الأفراد قيمهم ومعاييرهم الأخلاقية. التربية هي أداة هذا "القهر الاجتماعي"، حيث يتم استدماج هذه القيم منذ الطفولة لتصبح جزءًا من شخصية الفرد، فيظن أنها صادرة عنه بينما هي مفروضة عليه. بل إن دوركايم يذهب إلى أن معظم حالات الانتحار يمكن تفسيرها بضعف هذا الاندماج الاجتماعي وفقدان القيم المشتركة (انتحار الأنومي). وهكذا، فإن الذات لا تصنع قيمها من عدم، بل "تصنعها" من المادة الخام التي زودها بها المجتمع، مما يحد بشكل كبير من ادعاء الاستقلالية المطلقة.
3- التركيب: نحو تصور ديالكتيكي يجمع بين الذات والموضوع (موقف كانط):
يمكن الخروج من هذا التعارض عبر تصور إيمانويل كانط الذي يوفق بين استقلالية الذات وكونية القيمة. فمن ناحية، تؤسس الذات قيمها الأخلاقية بعقلها العملي، دون الخضوع لأي سلطة خارجية (إرادة حسية، نزعة منفعة...). هذا هو مبدأ "الحكم الذاتي" للإرادة. ولكن، من ناحية أخرى، لا تبتكر هذه الإرادة القيمة من فراغ، بل تكتشفها بواسطة "ال imperative الحتمي (ال categorical imperative)" الذي يأمرنا بأن نعمل وفقًا للقاعدة التي يمكن أن نريدها قانونًا عالميًا. وهكذا، تكون القيمة التي تخلقها الذات (بحرية) هي في نفس الوقت قيمة كونية وعقلانية (موضوعية)، تتجاوز نزوات الفرد الذاتية. الذات هنا حرة ومبدعة، لكن إبداعها منضبط بالعقل الكوني، مما يجعل قيمها إنسانية وليست فردية بحتة.
الخاتمة (حل الإشكالية):
في الختام، يتجاوز الجواب عن السؤال "إلى أي حد" الثنائية البسيطة بين الذات والموضوع. فمن المبالغة القول إن الذات تصنع قيمها بشكل مطلق ومستقل عن أي تأثير، كما أنه من المبالغة نفي أي دور لها وجعلها مجرد وعاء يستقبل قيم المجتمع. التصور الأكثر دقة هو أن الذات "تشارك في صنع قيمها" ضمن حيز من الحرية النسبية. إنها ليست خالقة من عدم، بل هي فاعلة وناشطة في عملية استدماج القيم المجتمعية والدينية، وتأويلها، ونقدها، وإعادة إنتاجها، بل وابتكار قيم جديدة أحيانًا انطلاقًا من ظروفها التاريخية. الحرية لا تعني الاختراع من لا شيء، بل تعني القدرة على الاختيار والمسؤولية ضمن إطار من الشروط المحددة. وهكذا، تكون الذات صانعة لقيمها بقدر ما هي مصنوعة بها.
أسئلة وأجوبة (التحليل والنقد والتقويم)
1- أسئلة تحليل الرأي والحجج:
س: ما هي الحجة الأساسية التي يستند إليها سارتر للقول بأن الذات تصنع قيمها؟
ج: حجة الحرية الوجودية: الإنسان لا يملك جوهرًا ثابتًا، فهو يوجد أولاً ثم يحدد essence (جوهره) لاحقًا عبر خياراته وأفعاله. كل اختيار هو إقرار بقيمة ما، وبالتالي فهو يخلق القيمة في نفس لحظة ممارسته للحرية.
س: كيف ينتقد دوركايم فكرة صنع الذات لقيمها؟
ج: ينتقدها من خلال حجة "الحقيقة الاجتماعية". القيم هي وقائع اجتماعية (social facts) تتميز بصفة القهر الخارجي على الأفراد. الفرد يتشربها عبر التربية والتنشئة الاجتماعية (الاستدماج) فيظنها نابعة منه بينما هي مفروضة عليه من "الضمير الجمعي" للمجتمع.
2- أسئلة التركيب والتقويم:
س: إلى أي درجة يمكن اعتبار موقف كانط تركيبًا ناجحًا بين موقفي سارتر ودوركايم؟
ج: يعتبر كانط تركيبًا ناجحًا إلى حد كبير لأنه احتوى عناصر قوية من الموقفين. من سارتر، أخذ فكرة استقلالية الإرادة وحرية الذات في تشريع القانون الأخلاقي لنفسها (الحكم الذاتي). من دوركايم (وإن كان سابقًا عليه)، أخذ فكرة كونية القيمة وموضوعيتها، ممثلة في "ال imperative الحتمي" الذي يمنع الأهواء الذاتية. وهكذا جمع بين حرية الصانع (الذات) وموضوعية المصنوع (القيمة الكونية).
س: ما هو القصور في الأطروحة الوجودية المطلقة لسارتر؟
ج: قصورها الرئيسي في إهمالها للبعد الاجتماعي والتاريخي للإنسان. الذات لا توجد في فراغ، بل هي مغمورة منذ ولادتها في شبكة من العلاقات والقيم السابقة لها. افتراض أن الإنسان يبدأ من الصفر في صنع قيمه هو افطار تجريدي غير واقعي. كما أن المسؤولية المطلقة التي يفرضها سارتر يمكن أن تؤدي إلى القلق الوجودي والشعور بالعبثية.
3- أسئلة النقد والرأي الشخصي (مع عناصر للإجابة):
س: هل تعتقد أن وسائل التواصل الاجتماعي اليوم تعزز قدرة الذات على صنع قيمها أم تقيدها؟
ج: (رأي قابل للنقاش)
تعزيز الصنع: تمنح منصات متعددة، تتيح التعرض لثقافات وقيم متنوعة، مما يوسع خيارات الفرد ويسمح له بانتقاء وتركيب قيمه الخاصة بشكل أكثر وعيًا.
تقيد الصنع: تخلق "فقاعات الترشيح" (filter bubbles) و"قطيعًا فكريًا" يفرض قيمًا جماعية جديدة (ثقافة الإلغاء، موضة معينة...)، كما أن خوارزمياتها توجه الرغبات وتصنع قيم استهلاكية موحدة، مما يقيد الذات بدلاً من تحريرها.
س: أيهما أكثر تأثيرًا في تشكيل قيم الشباب اليوم: الأسرة أم المدرسة أم الإنترنت؟
ج: (رأي قابل للنقاش)
في الماضي، كانت الأسرة والمدرسة هما المصدر الرئيسي.
اليوم، مع ثورة المعلومات، أصبح للإنترنت وتحديدًا منصات التواصل والتيك توك واليوتيوب تأثير هائل، ربما يفوق تأثير المصادر التقليدية في بعض الجوانب، خاصة فيما يتعلق بالقيم الجمالية والاجتماعية (الموضة، الشهرة، العلاقات...). لكن تبقى الأسرة والمدرسة أساسيتين في تشكيل البنية الأخلاقية الأساسية.
نصائح لطلبة البكالوريا
احرص على فهم المفاهيم: تحليل السؤال يبدأ بفهم مصطلحات: "الذات"، "تصنع"، "قيم".
لا تتبنى موقفًا واحدًا: الفلسفة هي فن الجدل. قدم الأطروحة، نقدها، ثم حاول التركيب.
اربط بالقضايا المعاصرة: مثل تأثير السوشيال ميديا، العولمة، الأزمات الأخلاقية المعاصرة. هذا يثري المقال ويظهر فهمك العميق.
استخدم الأمثلة: لا تبقَ في التجريد النظري فقط. قدم أمثلة واقعية على قيم (الصدق، النجاح، الحرية، الاحترام) وكيف تتشكل.
انتبه to الخطة: المقدمة → التوسيع (أطروحة، نقد، تركيب) → الخاتمة. التزم بهذه الخطة للحصول على مقال منظم.
تدرب على الكتابة: الكتابة الفلسفية تحتاج إلى تمرين. حل المواضيع السابقة في وقت محدد.
خلاصة الموضوع (مراجعة سريعة)
الإشكالية: مصدر القيم: هل هو الذات أم المجتمع؟
أطروحة سارتر (نعم): الذات حرة ومسؤولة عن صنع قيمها من خلال اختياراتها.
نقد دوركايم (لا): المجتمع هو من يفرض قيمه على الفرد عبر التربية والضمير الجمعي.
تركيب كانط (توفيقي): الذات تشرع لنفسها قانونًا أخلاقيًا (حرية) لكن هذا القانون يكون كونيًا وعقلانيًا (موضوعية).
الاستنتاج النهائي: الذات تشارك في صنع قيمها ضمن إطار الشروط الاجتماعية والتاريخية، فهي ليست خالقة مطلقة ولا متلقية سلبية.
امتحان نموذجي مع الحل
الجزء الأول: وضعية إشكالية
يقول الشاعر: "لا تقل أصلي وفصلي أبدًا * إنما أصل الفتى ما قد حَصَلَا"
ويقول مثقف: "قيمنا هي انعكاس لتربيتنا وبيئتنا ولا فضل لنا فيها".
التعليمة: بناء على الوضعية وعلى مكتسباتك القبلية، اكتب مقالًا فلسفيًا تتناول فيه الإشكالية التالية:
إلى أي حد يمكن اعتبار الذات مصدرًا لأخلاقها؟
(تلميح: نفس البنية يمكن تطبيقها مع تغيير بسيط من "قيم" إلى "أخلاق")
الجزء الثاني: أسئلة الفهم والتحليل
استخرج من الوضعية موقفين متعارضين بخصوص مصدر القيم.
الحل: موقف الشاعر الذي يؤكد على self-made man (الذات تصنع نفسها وقيمها)، وموقف المثقف الذي يؤكد على determinism (الحتمية الاجتماعية والتربوية).
عرف بمصطلح "الاستدماج" عند دوركايم.
الحل: الاستدماج هو عملية يقوم خلالها الفرد باستيعاب وتطبيق المعايير والقيم الاجتماعية بحيث تصبح جزءًا من شخصيته ويصدرها بشكل تلقائي، ظانًا أنها نابعة منه بينما هي قيم المجتمع.
الجزء الثالث: سؤال المناقشة
هل يمكن للذات أن تنعتق كليًا من تأثير المجتمع في تشكيل قيمها؟
الحل النموذجي: لا يمكن للذات أن تنعتق كليًا من تأثير المجتمع، لأن الإنسان كائن اجتماعي بالطبع. حتى عندما تثور الذات على قيم مجتمعها، فإن تمردها هذا يكون باستخدام أدوات فكرية ولغوية من نفس المجتمع، ويكون "رد فعل" على قيم موجودة أصلاً. يمكن للذات أن تنقد قيم مجتمعها، وأن تختار من بين عدة قيم، بل وأن تبتكر قيمًا جديدة، لكنها تفعل ذلك دائمًا في حوار (صامت أو معلن) مع الإرث الثقافي والاجتماعي الذي تنتمي إليه. لذلك، تكون الحرية هنا هي حرية نسبية وليست مطلقة.

Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire